فصل: باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجـن‏:‏6‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الشرك‏)‏، من‏:‏ للتبغيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها؛ لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه؛ فإنه جائز؛ كالاستعانة‏.‏

* * *

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه كان رجال من الإنس‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏6‏]‏، الواو‏:‏ حرف عطف، و‏(‏أن‏)‏‏:‏ فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله‏:‏ ‏(‏أنه استمع نفر من الجن‏)‏‏.‏

قال ابن مالك‏:‏

وهمز إن افتح لسد مصدر ** مسدها وفي سوى ذاك اكسر

فيؤول بمصدر، أي‏:‏ قل أوحي إلي استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الإنس‏)‏، صفة لرجال؛ لأن رجال نكرة، وما بعد النكرة صفة لها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعوذون‏)‏، الجملة خبر كان، ويقال‏:‏ عاذ به ولاذ به؛ فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحه، ولا يصلح ما قاله إلا لله‏:‏

يا من ألوذ به فيما أأملـــــه ** ومن أعوذ به مما أحــاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ** ولا يهيضون عظما أنت جابره

قوله‏:‏ ‏{‏يعوذون برجال من الجن‏}‏، أي‏:‏ يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم، ولكن زادوهم رهقا؛ أي‏:‏ خوفا وذعرا، وكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رهقا‏)‏، أي‏:‏ ذعرا وخوفا، بل الرهق أشد من مجرد الذعر والخوف؛ فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء؛ فالذعر والخوف في القلوب والرهق في الأبدان‏.‏

وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام؛ لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقا؛ فعوقب بنقيض قصده، وهذا ظاهر؛ فتكون الواوضمير الجن والهاء ضمير الإنس‏.‏

وقيل‏:‏ إن الإنس زادوا الجن رهقا؛ أي‏:‏ استكبارا وتوا، ولكن الصحيح الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏برجال من الجن‏)‏، يستفاد منه أن للجن رجالا، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الجماع‏.‏

والفقهاء يقولون في باب الغسل‏:‏ لوقالت‏:‏ إن بها جنيا يجامعها كالرجل؛ وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن؛ فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم‏.‏

وعن خولة بنت حكيم قالت‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏من نزل منزلًا، فقال‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك‏)‏ رواه مسلم ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء‏.‏‏]‏‏.‏

لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالًا ونساء‏.‏

وجه الاستشهاد بالآية‏:‏ ذم المستعيذين بغير الله، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك‏.‏

* * *

قوله‏:‏ ‏(‏كلمات‏)‏، من جموع القلة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له؛ فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء‏.‏

قال ابن مالك‏:‏

أفعله أفعل ثم فعلـــــه ** ثمت أفعال جموع قلــــه

وبعض ذي بكثرة وضعًا يفي كأرجل والعكس جاء كالصفي

والراجح‏:‏ أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل‏.‏

و‏(‏كلمات‏)‏‏:‏ جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَو كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوجِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏‏.‏

وأبلغ من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَو أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ من الآية27‏]‏‏.‏

والمراد بالكلمات هنا‏:‏ الكلمات الكونية والشرعية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من نزل منزلًا‏)‏ يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أوالطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من نزل منزلًا‏)‏ يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أعوذ‏)‏ بمعنى‏:‏ ألتجىء وأعتصم‏.‏

1ـ الصدق في الأخبار‏.‏

2ـ العدل في الأحكام‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏115‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شر ما خلق‏)‏، أي‏:‏ من شر الذي خلق؛ لأن الله خلق كل شيء‏:‏ الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه؛ لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيرًا، فكان خيرًا‏.‏

وعلى هذا نقول‏:‏ الشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته؛ أي‏:‏ مخلوقاته‏.‏

وعلى هذا تكون ‏(‏ما‏)‏ موصولة لا غير؛ أي‏:‏ من شر الذي خلق؛ لأنك لوأولتها إلى المصدرية وقلت‏:‏ من شر خلقك؛ لكان الخلق هنا مصدرًا يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضًا المفعول، لكن لوجعلتها اسمًا موصولًا تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق‏.‏

وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه؛ شر لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي‏:‏

1ـ شر محض إبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها؛ فهي خير‏.‏

2ـ خير محض؛ كالجنة، والرسل، والملائكة‏.‏

3ـ فيه شر وخير؛ كالإنس، والجن، والحيوان‏.‏

وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يضره شيء‏)‏، نكرة في سياق النفي؛ فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله؛ لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره؛ لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف؛ فهولوجود مانع لا لقصور السبب أوتخلف الخبر‏.‏

ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل‏:‏

قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصورًا في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره‏.‏

ومنه‏:‏ التسمية عند الجماع؛ فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد؛ لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هوالمانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وقد جربت ذلك؛ حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب‏.‏

والشاهد من الحديث‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله‏)‏‏.‏

والمؤلف يقول في الترجمة‏:‏ الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله؛ فلماذا‏؟‏

أجيب‏:‏ أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الاستعاذة بها‏.‏

ولهذا كان المراد من كلام المؤلف‏:‏ الاستعاذة بغير الله؛ أي‏:‏ أوصفة من صفاته‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب السلام/باب استحباب وضع يده على موضع الألم‏.‏‏]‏، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة‏.‏

ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته؛ لأنها غير مخلوقة‏.‏

أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية؛ فجائز، وإن أراد الآيات الكونية؛ فغير جائز‏.‏

أما الاستعاذة بالمخلوق؛ ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه؛ فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏(‏لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة‏)‏، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله؛ سوى الله‏.‏

ومن ذلك أيضًا الاستعاذة بأصحاب القبور؛ فإنهم لا ينفعون ولا يضرون؛ فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيدًا عنهم‏.‏

أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في ‏(‏تيسير العزيز الحميد‏)‏، وهو مقتضى الأحاديث

الواردة في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ لما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفتن؛ قال‏:‏ ‏(‏فمن وجد من ذلك ملجأ؛ فليعذ به‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الفتن/باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، ومسلم‏:‏ كتاب الفتن/باب نزول الفتن‏.‏

‏]‏‏.‏

وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الحدود/ باب حد قطع السارق الشريف وغيره ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏، والغلام الذي عاذ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الأيمان/ باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده‏.‏‏]‏، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الفتن/ باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت‏]‏، وما أشبه ذلك‏.‏

وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم؛ فلا شيء فيه‏.‏

لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ؛ فهذا شرك؛ لأن هذا لا يكون إلا لله‏.‏

وعلى هذا؛ فكلام الشيخ رحمه الله في قوله؛ ‏(‏إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق‏)‏ مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا‏:‏ لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقًا‏.‏

* * *